فالأصل هو عمل القلب، ولما كان هو الأصل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً منه، فذكر الحياء؛ لأنه أساس كل خير وأساس كل عمل، ولذا قال ابن القيم : وهل الحياء إلا حياء المحبين؟!
ولذا فإن من تتعامل معه من الناس إما أن تكون محباً له، وإما أن تكون مبغضاً له، فإذا كنت تكرهه ولديه سلطة عليك وأمر ونهي فوجدك تعمل عملاً لا يريده؛ فإن الحالة التي تصير عندك حينئذٍ هي الخوف، لكن إذا كنت تحبه وتقدره وتعظمه، فرآك على أمرٍ تعلم أنه يكرهه ولا يريده؛ فإن الحالة النفسية حينئذٍ هي الحياء، فتستحي وتتمنى أنه ما رآك.
فالإنسان يخاف من الله لا ريب في ذلك، لكن المؤمن الذي يحب الله ويحب طاعة الله يكون وازعه هو الحياء لا مجرد الخوف، نعم تجتمع الخصال كلها ولا تنفصل، لكن الوازع الأكبر هو الحياء، إذ إنه يدفع صاحبه إلى ترك ما لا يليق وإن كان مباحاً.
ولذا قال نوح عليه السلام لقومه: (( مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ))[نوح:13].
والمعاني القلبية متقاربة، فاليقين والإخلاص والخشوع معان متقاربة، وكذلك الحياء والوقار والتعظيم والإجلال والمحبة معان كلها متقاربة ومتداخلة.
فأكثر ما يجعل الناس يعصون الله تعالى ويكذبون دعوة الرسل أنهم لا يرجون لله وقاراً، ولا يقدرون الله حق قدره، ولا يعرفون نعمة الله، كما قال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ))[إبراهيم:28]؛ لأن الإنسان إذا تأمل في نعم الله عليه وعظَّم الله ووقر الله عز وجل استحيا أن يعصي الله، وقد قال تعالى: (( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ))[العنكبوت:17]، فصاحب النعم هو الذي يوقر، ولذلك كان أكثر كُفر الكافرين من هذا القبيل، كما بين الله سبحانه وتعالى بقوله: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ))[الأنعام:1]، وقال في الآية الأخرى: (( إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ))[الشعراء:98]، وقال في آية أخرى: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ))[البقرة:165] فكفرهم عدل وتسوية وندية في المحبة وفي التوقير وفي الإجلال وفي التعظيم، وليست التسوية أن يقولوا: إن لله شركاء خلقوا كخلقه، إذ ما قال هذا أحد من الأمم السابقة، بل هم معترفون بأن الله خالق كل شيء، كما قال تعالى: (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ))[الزخرف:9]، وقال تعالى: (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ))[الزخرف:87]، وقال تعالى: (( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ))[يونس:31] يؤمنون بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر، لكن كان العدل والتسوية والندية في المحبة وفي الإجلال وفي التعظيم وفي التوقير.
ولذلك انظر إلى واقع عباد القبور وعباد الأولياء ومن أشبههم والعياذ بالله، حيث تجدهم يجعلون الحياء من الشيخ رادعاً عن الذنب! مع أن الله تعالى قال عن عباده: (( إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ))[الأعراف:201] أي: تذكروا وعد الله ووعيد الله وعقوبة الله، وخافوا من الله فأبصروا فرجعوا عن ذنوبهم واستغفروا وأنابوا.
فأولئك المشركون -والعياذ بالله- قد يتذكر أحدهم الإمام المعصوم كما هو الحال عند الروافض ، أو يتذكر الشيخ كما هو الحال عند الصوفية ، ويقول: إذا عصيت فاستحضر في ذهنك صورة الشيخ، وكأن الشيخ يراك! ويذكرون قصصاً عجيبة في هذا، فهذه هي المساواة والندية في الإجلال والتعظيم.
فموضوع المسألة الأولى تقرير أن قول أهل السنة والجماعة -أو السلف بمعنى أخص- أن الدين قولٌ وعمل هو الراجح، وهو الذي ينبغي أن يصار إليه، بالإضافة إلى أن الشيخ ذكر أنها مسألة خلافية ولم ينقل الإجماع، فهو أيضاً اختار غير اللفظ المختار، ونحن اخترنا ورجحنا خلاف لفظه.